روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | دراسات في تاريخ جمع القرآن الكريم (1)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > دراسات في تاريخ جمع القرآن الكريم (1)


  دراسات في تاريخ جمع القرآن الكريم (1)
     عدد مرات المشاهدة: 3628        عدد مرات الإرسال: 0

الدوافع: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: 

فإن المجمع عليه لدى المسلمين، ولدى كافة العقلاء من غير المسلمين أنه لم يوجد كتاب على وجه البسيطة لاقى من العناية والإتقان، جمعا، وضبطا، وكتابة ورسما، وطباعة، مثل ما لاقى القرآن الكريم، هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان ولا يتناطح فيها كبشان كما يقولون. 

 والسر وراء ذلك واضح ومعروف لكل ذي بصيرة، هو أن الله تعالى تكفل بحفظه وتدوينه بقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر آية 9، وقوله تعالى:"إنا علينا جمعه وقرآنه" القيامة. آية 17

غير أن هذه الحقائق مع مرور الزمن، يحاول الكثير من أعداء هذه الأمة تشويه صورتها، أو الإساءة والظن بها في محاولة يائسة من النيل من القرآن الكريم، والطعن فيه، أو إثارة الشبهات حوله. 

والهدف من وراء ذلك شغل مفكري المسلمين وعوامهم بقضايا فرعية كانت من المسلمات، بل والمجمع على عدم الخوض فيها؛ وذلك لإجماع الأمة في الصدر الأول على سلامتها وسلامة منهجها، بحيث لم يعد للبحث فيها أي فائدة أو ثمرة مرجوة من ورائها، لكن الواقع المر الذي تعيشه الأمة سنح لإعدائها أن يصوبوا سهامهم لكل شيء دون تمييز بين ما هو مسلم به، وما هو مجال للبحث والأخذ والنقاش.

ومسألة جمع وتدوين القرآن الكريم تعتبر أعظم حدث تم في عهد الخليفة أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ بعد قتال المرتدين والحفاظ على عقد الإسلام من الانخراط.

وتتمثل عظمة هذا الحدث في الدوافع التي أدت إليه، والتفكير فيه، والكيفية أو المنهجية التي تم بها.

أما الدافع الذي أدى إليه فسقوط ألف ومائتي شهيد في معركة اليمامة، من بينهم أربعمائة وخمسون صحابيا، منهم عدد كبير من القراء والحفاظ للقرآن الكريم، وهذا ليس بالأمر الهين على أمة ما زالت في طور النشأة والإعداد والاستشراف للوجود، تصاب في دستورها الذي هو سبب وجودها.

و اعتبر هذا الحدث بمثابة الإنذار المبكر لكبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر، إذ كيف يكون الأمر فيما لو جاءت الغزوات وتلاحقت في حصد أعناق هذا الرعيل الواحد تلو الآخر، خصوصا حفظة القرآن الكريم؟ 

ويبدو في الجانب الآخر حقيقة مهمة، وهى: أن رعيل الصحابة لم يدرك معظمهم أهمية حفظ القرآن الكريم كنص مكتوب مدون، إضافة إلى حفظ الصدور في مواجهة المستقبل وما يطويه الغيب من أحداث وتقلبات.

وظروف وانشغال بالفتوحات والغزوات ربما تسهم في قلة عدد من يتفرغون لحفظه وضبطه، وقد كان الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ من النفر الذين استشرفوا هذا المستقبل، فقال للخليفة أبي بكر:"إن القتل استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن".

وهذا النص في تقديري يعتبر أول وثيقة تاريخية تدل على نشأة علم المقاصد الذي تبلورت ملامحه فيما بعد على يد الإمام الشاطبي، واتضحت أكثر على يد الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى (- 1393هـ).

غير أن أبا بكر لم يكن ليقبل مثل هذا الأمر دون تروٍ ونظر في عاقبة مثل هذا الحدث، وعبر عن ذلك بقوله:" كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أجاب عمر:" هو والله خير". ويبدو أن الأمر كان من الصعوبة بمكان ـ وهو حقيقة كذلك ـ حتى إن عمر ما زال يراجع وأبا بكر مصر على الرفض.

وفي النهاية أدرك أبو بكر قيمة هذا العمل وأثره الكبير في الأمة فاختمرت الفكرة في ذهنه، وشرح الله صدره لها قال أبو بكر:"فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، وقد رأيت في ذلك الذي رأى عمر". 

 ويؤخذ من هذا عدة أمور: 

الأول: أن مسألة جمع القرآن كانت من القضايا العامة التي تخص الدولة، فهو دستورها، والواجب الأول الحفاظ عليه من أن تمتد إليه يد التغيير أو التبديل.

ويقوم بهذا الخليفة أو من ينوب عنه؛ باعتباره المسؤول الأول في الحفاظ عليه، وقد فهم سيدنا عمر رضي الله عنه ذلك، فبادر إلى الخليفة يعرض عليه الأمر ويبادله الرأي، باعتباره وزيرا للخليفة لا باعتباره واحدا من عوام الناس.

الثاني: أن قضية الثوابت والمتغيرات كانت واضحة في أذهان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فالمسائل القطعية الورود لا تقبل بحال التغيير بينما الظنيات، والفرعيات، وما لم يرد بشأنه نص قطعي قابل للنقاش والبحث، ومسألة جمع القرآن الكريم كانت من هذا القبيل.

الثالث: أن دائرة البحث في القطعيات أو الظنيات منوطة بالعلماء الراسخين المتخصصين في علم الشريعة، وليست علوم الشريعة كلًا مباحا لعوام الناس وأنصاف العلماء.

الرابع: قد يقال ولِمَِ لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره الرسول والقائد الأول للأمة؟ وهل كان أبو بكر أو عمر أو غيره أحرص على القرآن منه صلى الله عليه وسلم؟ 

 الحقيقة أن مسألة الحرص أو عدمها لا ينغي أن تقال في مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، وكان عليه السلام أشد حرصا على أمته من نفسها على نفسها "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" سورةالتوبة 128.

وقد كان عليه الصلاة السلام من شدة حرصه يسابق الملك في قرائته ويبادر إلى أخذه، فبين الله له أنه سبحانه قد تكفل بجمعه.

وإليك ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى من سورة القيامة:"لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" الآيات 16ـ 19

:"هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره.

وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" أي: بالقرآن، كما قال: "وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" سورة طه: 114.

ثم قال: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ" أي: في صدرك، "وَقُرْآنَهُ" أي: أن تقرأه، "فَإِذَا قَرَأْنَاهُ"أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل، "فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا." انتهى كلامه رحمه الله. 

 وأما عدم جمعه صلى الله عليه وسلم بين دفتين كما هو معهود اليوم فذلك راجع لأسباب وجيهة ذكرها الزرقاني رحمه الله في مناهل العرفان وهي:

1ـلم توجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم الدواعي التي وجدت في عهد الصديق وعثمان رضى الله عنهما.

2ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم بصدد أن يأتي الوحي بنسخ بعض الآيات.

3ـ إن القرآن الكريم نزل مفرقا على ثلاثة وعشرين عاما.

4ـ ترتيب آيات وسور القرآن الكريم ليست على ترتيب نزوله."

الكاتب: د. عبد التواب مصطفى خالد

المصدر: موقع لها أون لاين